محافظات

سكينة بنت الحسين ونقدها الأدبي.. صفحات مضيئة من ذاكرة التراث

مصطفى زايد – الباحث الصوفي

في كل عام، حين يطلّ على مصر احتفالُها بمولد السيدة سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما.

تتجدّد في الوجدان تلك الصورة النورانية لمرأةٍ جمعت المجد من طرفيه: شرفُ النسب ورفعةُ العلم، عظمةُ البيت النبوي ورقّةُ الذوق الأدبي.

ليس الاحتفال بمولدها مجرد مناسبة روحية فحسب، بل هو استدعاءٌ لصفحات مشرقة من تاريخ الثقافة العربية، ووقوفٌ أمام شخصية نسائية نادرة كانت في زمانها صوتاً يعلي قيمة الكلمة، وميزاناً دقيقاً يمتحن به الشعراء ما جادت به قرائحهم.

وفي زمنٍ تُنسى فيه كثير من رموز الأدب، يبقى ذكر السيدة سكينة شاهداً على أن للمرأة في تراثنا حضوراً قوياً وفاعلاً، وأن مجالس النقد كانت يوماً تُدار بعقلها وحكمتها ورهافة حسّها.

كانت السيدة سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما واحدة من أنقى الوجوه الثقافية في تاريخ المدينة المنوّرة، تجمع في شخصيتها بين نور بيت النبوة ورقّة الذوق وعمق الفهم، حتى غدت مجالسها ملتقىً للشعراء، ومنتدىً لأصحاب الأدب، ومختبراً راقياً تُعرض فيه القصائد وتُمحّص فيها المعاني.

دخل عليها الشعراء لا طمعاً في مال ولا تكريماً جاهلياً، بل رغبة في سماع رأي من امتلكت ذوقاً يسبق الجيل، وحفظاً يجلّله الاتزان، ونقداً لا يجرح بل يهذّب.

وهكذا تحوّل مجلسها إلى مدرسة أدبية تُعلي قيمة الكلمة وتُحافظ على سمعة الشعر في زمنٍ اضطربت فيه الأذواق وتنافس فيه الشعراء على المدح والغزل.

كانت سكينة ذات منهج واضح في النقد؛ تبدأ بثناء يليق بصاحب الموهبة ثم تعرج على موطن الملاحظة دون تعنيف، وتستشهد بما تحفظه من الشعر فتقارن بين الصور وتوازن بين الألفاظ والمعاني، فيكون نقدها أدباً ونوراً معاً.

ومن أروع ما روي عنها ما جاء في “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني (ج16، ص137). فقد قدم إليها جميل بثينة يعرض شعره، فأنشد قائلاً:

«أَسِيرُ الهَوَى مَا بِيْنَ جَانِبَيْ رَبَعٍ

وَقَدْ طَالَ مَا أَلْقَى مِنَ الْحُبِّ وَالْعَنَا»

فابتسمت وقالت: «أحسنت يا جميل، ولكن أين أنت من قول الآخر:

أَمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيَارِ لَيْلَى   أُقَبِّلُ ذَا الْجِدَارَ وَذَا الْجِدَارَا

وَمَا حُبُّ الدِّيَارِ شَغَفْنَ قَلْبِي   وَلَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا».

كانت بذلك تلمّح إلى أنّ الصورة الشعرية قد بلغت في هذا النص مبلغاً رفيعاً يجدر بالشاعر أن يستحضره وهو يبني معانيه.

ويروي ابن عبد ربه في “العقد الفريد” (ج6، ص115) أن عمر بن أبي ربيعة قصدها يوماً فأنشدها:

«أَمَنْزِلَ سُعْدَى بَيْنَ خَبْتٍ وَحَوْمَلِ

وَبَيْنَ فِلَاحٍ فَالْعَقِيقِ فَجَنْبُلِ»

فقالت له: «إنك لشاعر مجيد، ولكنك أكثرت من التشبيب، وهل يليق بالعاقل أن يشيب بامرأة ثم يشيب بابنتها؟» في تعبير رشيق يختصر نقداً أخلاقياً وأدبياً معاً دون تجريح.

أما الأحوص، فقد روى البلاذري في “أنساب الأشراف” (ج3، ص232) أنه أنشد عندها قوله:

«لَعَمْرُكَ مَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدٍ

وَلاَ بِالدِّيَارِ وَلاَ بِالْغِيَاضِ

وَلاَ بِالْحِمَى إِلاَّ رُسُومُ رَسْمٍ

كَمَا رَسَمَتْ كَفٌّ عَلَى أَطْلَاسِ»

فقالت: «أحسنت، ولكنك وصفت الديار بالخلو، وأين قول زهير:

قَفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ

بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ؟»

كانت بمقارنتها تردّ الشاعر إلى عمق الصورة الشعرية الأصيلة.

دلّت هذه المواقف على سعة حفظها للشعر، وحضور ذهنها، وقدرتها على المقارنة، وانضباط نقدها بالأدب قبل أي شيء آخر. كانت تتحدث كمن تربّى في بيت النبوة، وتشرب جمال اللغة منذ طفولتها. وكيف لا؟ وهي ابنة الإمام الحسين، نشأت في بيتٍ يعلم الناس القرآن والبلاغة، وعاصرت شعراء كباراً في العصر الأموي، فجمعت بين العلم الشرعي والذوق الأدبي.

وقد شهد لها العلماء والأدباء بما يليق بمكانتها. قال الذهبي في “سير أعلام النبلاء” (ج4، ص398): «كانت سكينة بنت الحسين ذات عقل وأدب، وكان الشعراء يعرضون عليها شعرهم». وذكر البلاذري في “أنساب الأشراف” (ج3، ص231): «كانت سكينة تفقه في الشعر، وتعرف جيده من رديئه».

هكذا ظلت صورتها في الذاكرة: امرأة من أهل البيت، لا تكتفي بالنسب الشريف بل تضيف إليه فهماً وثقافة وذوقاً. امرأة جعلت من النقد الأدبي عملاً يرقّي الإبداع ويهذب النفس، ويعيد للشعر مكانته في زمن كان الشعر فيه تاجَ المجالس.

وفي النهاية، يبقى ذكر سكينة بنت الحسين ذكرى لامرأة صنعت لها حضوراً لا يُنسى، وأقامت في تاريخ الأدب ركناً مشرقاً، يضيء كلما ذكر الشعراءُ مجلساً كان يجلّ الكلمة ويحترم قائلها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى