
المنصة 360
في مثل هذا اليوم من عام 1970، خيم الحزن على مصر والعالم العربي، بعدما ودّعت الأمة زعيمها جمال عبد الناصر.
لم يكن مجرد رئيس دولة، بل كان رمزاً لحلم قومي، وصوتاً ثائراً ضد الاستعمار والهيمنة، ورجلاً آمن بأن مصر قادرة على أن تقود لا أن تُقاد.

ولد جمال عبد الناصر في 15 يناير عام 1918 بحي باكوس الشعبي بالإسكندرية، لأسرة بسيطة متوسطة الحال، والده كان موظفاً بالبريد، يتنقل بين المحافظات، ما جعل جمال يعيش طفولته متنقلاً بين القاهرة والإسكندرية وأسيوط، في تلك التنقلات، كوّن الطفل وعياً مبكراً بمعاناة الشعب، حيث رأى الفقر والحرمان عن قرب، فترسخت داخله قناعة بأن العدالة الاجتماعية ليست رفاهية بل ضرورة.

دخل المدرسة الملكية الثانوية، وهناك بزغت شخصيته القيادية مبكراً، إذ شارك في المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني عام 1935، وتعرض للاعتقال وهو لم يتجاوز السابعة عشرة، ذلك المشهد، حين رأى دماء زملائه على أرض الشارع، ظل محفوراً في ذاكرته، يغذي بداخله روح التمرد على الظلم.
غزة تحترق.. إسرائيل تطلق عمليتها البرية وانفجارات عنيفة
مصر تقود جهود مراجعة هيكل بناء السلام بالأمم المتحدة
قرر أن يلتحق بالكلية الحربية عام 1937، ليبدأ رحلة جديدة رسمت ملامح المستقبل.
في الجيش، اكتشف أن الاحتلال البريطاني لم يكن العدو الوحيد، بل الفساد السياسي داخل النظام الملكي.
جمال عبدالناصر وتنظيم الضباط الأحرار
ومن هنا وُلدت فكرة “تنظيم الضباط الأحرار”، التنظيم السري الذي جمع نخبة من الشباب المؤمنين بضرورة التغيير.

جاءت لحظة الحسم فجر 23 يوليو 1952، حين قاد عبد الناصر وزملاؤه ثورة الضباط الأحرار، التي أنهت حكم الملك فاروق وفتحت صفحة جديدة في تاريخ مصر.
لم يكن عبد الناصر حينها في الواجهة، إذ تولى اللواء محمد نجيب الرئاسة في البداية، لكن سرعان ما أصبح جمال عبد الناصر القائد الحقيقي للحركة، ليعلن في 1954 توليه السلطة رسمياً بعد أزمة سياسية كبرى.

منذ أن جلس على مقعد الحكم، تحوّل إلى زعيم يكتب تاريخاً جديداً. أول قراراته الكبرى كان تأميم قناة السويس عام 1956، متحدياً النفوذ البريطاني والفرنسي.
العدوان الثلاثي على مصر
القرار فجّر العدوان الثلاثي، لكن صمود مصر أكسب عبد الناصر مكانة أسطورية في العالم العربي، حيث أصبح رمزاً للتحرر الوطني.
لم يكتفِ بالسياسة الخارجية، بل مدّ يده إلى الداخل، فأطلق قوانين الإصلاح الزراعي لتوزيع الأراضي على الفلاحين، وبدأ مشروعاً طموحاً للتصنيع، جعل من مصانع الحديد والصلب رمزاً لعصر جديد.
أراد أن يجعل التعليم مجانياً لكل أبناء الشعب، فامتلأت الجامعات بطلاب قادمين من القرى والأرياف لأول مرة.
وفي قلب الصحراء، وضع حجر الأساس لمشروع السد العالي، الذي اعتُبر معجزة هندسية واقتصادية، ليؤمن لمصر طاقة كهربائية ورياً مستقراً للأراضي الزراعية.

كان ذلك الإنجاز عنواناً لإرادته في تحويل الأحلام إلى واقع.
لكن مسيرة عبد الناصر لم تخلُ من التحديات والانتكاسات، جاءت هزيمة 1967 كصفعة قاسية، حين خسرت مصر والأمة العربية في حرب الأيام الستة أمام إسرائيل.
جمال عبدالناصر وخطاب التنحي
اعتلى عبد الناصر المنصة يوم 9 يونيو ليعلن استقالته، لكن الجماهير خرجت في الشوارع تهتف باسمه وتطالبه بالبقاء. لم يكن المشهد مجرد رفض لرحيل رئيس، بل كان تمسكاً برمز جمع آمال الملايين.
ظل عبد الناصر يعمل بإصرار على إعادة بناء الجيش وإصلاح ما تهدم، حتى جاءت وفاته المفاجئة في 28 سبتمبر 1970، إثر أزمة قلبية داهمته بعد قمة عربية عاصفة بالقاهرة.

خرجت الملايين في جنازة مهيبة، هي الأكبر في تاريخ مصر الحديث، لتودع الرجل الذي عاش بينهم واحداً منهم، ومات وهو يحمل همومهم.
اليوم، وبعد أكثر من خمسة عقود على رحيله، يبقى جمال عبد الناصر شخصية استثنائية. قد يختلف المؤرخون حول سياساته وقراراته، لكن لا أحد ينكر أنه كان زعيماً صنع التاريخ بجرأة الحلم، وترك إرثاً لا يزال حياً في وجدان المصريين والعرب.



