تعليم بطبقتين.. من يملك حق المحاولة؟

بقلم : ماجد مصطفى
في مصر، لم يعد التعليم الثانوي مجرد مرحلة دراسية، بل أصبح مرآة طبقية تعكس من يملك الحق في المحاولة، ومن يُحرم منها.
بين نظام تقليدي يُراكم الأخطاء، وآخر جديد يُراكم التكاليف، تتشكل منظومة تعليمية تُفرز الطلاب لا حسب قدراتهم، بل حسب قدرتهم على الدفع.
الثانوية العامة ، النظام الذي حكم مصير ملايين الطلاب لعقود، لا يزال يحكم بعقلية الامتحان الواحد والمصير الواحد.
أما البكالوريا المصرية ، التي يطرحها وزير التعليم كمنظومة حديثة متعددة المسارات، فتبدو في ظاهرها واعدة، لكنها في جوهرها تطرح سؤالًا أكثر خطورة:
هل نحن بصدد تعليم يُحرر الطالب؟ أم تعليم يُقيده… ولكن بلغة جديدة؟
هكذا يُصنف الطالب قبل أن يُفكر
في نظام الثانوية العامة، يُجبر الطالب على الاختيار بين ثلاث شعب جامدة:
– علمي علوم
– علمي رياضة
– أدبي
لا مجال للتجريب أو التحول، ولا اعتبار للميول الفردية أو القدرات المتنوعة.
الطالب يُصنف مبكرًا، ويُحاكم لاحقًا في امتحان واحد، لا يرحم ولا يُراجع.
أما في البكالوريا المصرية، فيُمنح الطالب فرصة اختيار تخصصه من بين أربعة مسارات:
– الطب وعلوم الحياة
– الهندسة والحاسب
– الأعمال
– الآداب والفنون
لكن هذا التخصص يبدأ في الصف الثاني الثانوي، ويتطلب نضجًا فكريًا وتوجيهًا تربويًا حقيقيًا وهو ما تفتقر إليه كثير من المدارس الحكومية.
التحول بين المسارات غير مسموح بعد الاختيار، مما يجعل القرار نهائيًا ومصيريًا، تمامًا كما في النظام التقليدي.
الفرصة الثانية… لمن يملك ثمنها
في كلا النظامين، الفرصة الثانية ليست حقًا مكفولًا للجميع، بل امتيازًا لمن يملك المال:
في الثانوية العامة:
– امتحان الدور الثاني لا يمنح سوى نصف الدرجة، مما يجعل تحسين المجموع شبه مستحيل.
– إعادة السنة تعني دفع مصاريف جديدة بالكامل.
– تكلفة الدروس الخصوصية قد تصل إلى 20,000 جنيه سنويًا أو أكثر، خاصة في المواد الأساسية.
في البكالوريا المصرية:
– يُسمح بإعادة الامتحان لتحسين الدرجة، لكن مقابل 500 جنيه لكل مادة.
– المشروعات والأنشطة تتطلب أدوات، طباعة، وربما دعم خارجي، مما يضيف أعباء مالية جديدة.
– التخصصات المتقدمة تحتاج إلى مدرسين متخصصين بأسعار أعلى، مما يرفع تكلفة التعليم غير الرسمي.
من يملك المال، يملك فرصة ثانية. ومن لا يملك، عليه أن يرضى بما حصل عليه.
هكذا يتحول التعليم إلى طبقتين: طبقة تُجرب وتُحسن وتُعيد، وطبقة تُحاسب من أول محاولة.
التفكير ليس مجانيًا بعد الآن
الثانوية العامة تُكرّس ثقافة الحفظ، وتُحاكم الطالب في لحظة واحدة.
البكالوريا المصرية تُشجع التفكير، لكنها تُحمّل الطالب مسؤولية الاختيار المبكر، وتُكلفه ثمن المحاولة.
كلا النظامين يحمل وعودًا، وكلاهما يحمل ألغامًا.
لكن الفرق الحقيقي يكمن في الرؤية الوطنية: هل نريد تعليمًا يُنتج مفكرين، مبدعين، ومواطنين فاعلين؟ أم نريد تعليمًا يُفرز درجات ويُصنف البشر؟
صوت من الواقع
قال أحد طلاب الصف الثاني الثانوي في مدرسة حكومية بالقليوبية:
“أنا مش عارف أختار المسار، ومفيش حد بيوجهنا. خايف أختار غلط وأدفع الثمن بعدين.”
كلمات بسيطة، لكنها تختصر مأساة نظام يُطالب الطالب بالنضج دون أن يمنحه أدواته.
حين نقارن… نكتشف الفجوة
في فرنسا، يُمنح الطالب فرصة تحسين درجاته ضمن نظام البكالوريا دون تكلفة إضافية، ويُشجع على التفكير النقدي والبحث.
في فنلندا، يُبنى التعليم على التقييم المستمر، وتُمنح الفرصة لكل طالب للتطور دون عقوبة مالية.
أما في مصر، فالتطوير لا يزال مشروطًا بالدفع، والفرصة الثانية تُباع لمن يستطيع.
قال أحد خبراء التعليم في ندوة تربوية:
“لا يمكن بناء نظام حديث فوق أرضية غير عادلة. العدالة أولًا، ثم التطوير.”
التعليم ليس رفاهية… بل حق لا يُساوم عليه
على الإعلام أن يفتح هذا الملف، وعلى المجتمع أن يطالب بحق أبنائه في تعليم عادل، لا يُقاس بالدرجات ولا يُشترى بالنقود.
فالتعليم ليس سلعة، ولا يجب أن يكون امتيازًا لمن يستطيع الدفع.
إن البكالوريا المصرية قد تكون خطوة نحو المستقبل، لكنها لن تنجح إلا إذا بُنيت على أرضية من العدالة، والشفافية، والتكافؤ الحقيقي في الفرص.
وإلا… سنظل نُعيد إنتاج نفس المأساة، ولكن بلغة جديدة.



