بـ100 وجه

بقلم: نورهان أسامة
تطاردني منذ فترة ليست بالقليلة فكرة أراها متجسدة كشخص يحمل قناعين يبدل بينهما ليدلل على كل موقف يستوقفني، بل وأحيانا يركب القناعين على بعضهما ليظهر وجهه بمزيج من الاثنين: التطرف والبجاحة، أو الصلافة لو التزمنا بمفردات الفصحى.
فتارة يبهرني الموقف بتطرفه وأخرى يبهرني ببجاحته والثالثة يكون “متطرف بجح” يتباهى بالتطرف.
زمن التطرف الجميل الذي كان يتبادر إلى أذهان العامة بأنه رجل “متشدد دينيا” قد ولى وانقضى. الآن عندنا متطرفون من كل نوع، وغير المتطرف في أي موضوع أصبح متهما في نظر الجميع.
المجتمع أصبح يعج بالمتطرفين في الرياضة والسياسة والتربية؛ فهؤلاء يربون أولادهم على التربية الإيجابية المتصدرة من الغرب بحذافيرها دون مراعاة لضرورة “تأييف” أي شيء كي يناسب مجتمع آخر غير الذي نشأ فيه.
والآخرون لا يرضون بالطبع عن هذا “التهريح” فيظهر التيار المضاد بمنشورات الفيسبوك الناهضة للتربية الإيجابية من أساسها ويدشنون حملة لمناصرة التربية القديمة بالضرب والإهانة و”الشبشب” و”أنا الأم وأنا اللي صح حتى لو كلامي غلط”.
التطرف بالأساس لا ينتج عن الجهل التام، بل عن نصف المعرفة. الجاهل ليس متطرفا، هو غير مهتم. لكن نصف المتعلم هو المتطرف، وكأنه يدافع عن الجزء الذي تعلمه بكل قوته ظنا منه أنه إذا تبين خطؤه سيعود خطوة للوراء ليصبح جاهل مجددا. هو كالواقف في نصف غرفة منيرة ولا يرى أي شيء في النصف الآخر المظلم، ويخشى أن يسكتشفه من الأساس عملا بمبدأ “اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفهوش”.
وخذ عندك مثلا المعركة الدائرة بين القومية والعروبة، هل نحن فراعنة أم عرب. وهل يتعارضان؟ هل إنسان العصر الحديث لا بد له من هوية واحدة لا غير؟ معروف منذ قديم الأزل أن “الإنسان مدني بطبعه” ولا بد أن ينتمي إلى شيء سواء دين أو قبيلة أو جماعة.
ولسنا مختلفون في ذلك، المشكلة هنا أننا نستطيع أن ننتمي لأكثر من شيء وليس علينا الاختيار في كل الأحوال.
النوبيون في مصر مثلا لم يتخلوا عن هوياتهم ولا لغتهم الأصلية ولا طابع حياتهم، لكن ذلك لم يمنعهم أن يكونوا مصريين أيضًا. يذكر عارف حجاوي في كتابه “هكذا أفكر” مثال رائع على ذلك لسيدة اسكتلندية كانت مع صديقتها الإنجليزية في مطعم، وحين تلقت الاسكتلندية مكالمة من والدتها، فوجئت الانجليزية أنها لم تفهم من المحادثة كلمة واحدة لأنهم يتحدثون باللغة المحلية، هل معنى ذلك أن تلك السيدة الاسكتلندية تخلت عن انتمائها للملكة المتحدة ولغتها المعترف بها لأنها تجيد لغتها المحلية؟
لغة إما أقصى اليمين أو أقصى اليسار في عالم متشابك متعدد الانتماءات والهويات بل وحتى الجنسيات أصبحت غير مطلوبة وضرها أكبر بكثير من نفعها. وكأن العالم كله أصبح عبارة عن لوحة تتجاذبها الأطراف من كل جهة ولا يشغلون بالهم أن المنتصف على وشك التمزق.
جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن وجهة نظر الكاتب فقط، ولا تعبّر بالضرورة عن موقف أو توجه المنصة 360.



